Friday, June 22, 2007

أبو بكر الصديق ، عمر بن الخطاب ، عثمان بن عفان ، عظماء حركة الإصلاح الدينى فى منطقة الشرق الأوسط

إذا لقد جاء محمدا صلى الله عليه وسلم ، لوضع أسس وإحياء هدفين عظيمين ينضويان تحت لواء دين جديد


ومتين هذه المرة ، هو دين " الإسلام " . أما الهدفان فهما : الأول : الدعوة لعبادة الله تعالى الواحد الأحد ، سبحانه


ما اتخذ صاحبة ولا ولدا . والثانى : هو إتمام وترسيخ مكارم الأخلاق . وبعد فترة ثلاث وعشرين عاما مضاها


الرسول "ص" ، فى دعوة الناس ، وبعد حياة حافلة بالأحداث فى منطقة الشرق الأوسط التى شهدت ميلاد الإسلام


، توفى محمد "ص" منتقلا إلى جوار ربه تاركا الدعوة التى بدأها وبناها وتحمّل فى سبيل إرسائها المصاعب


الجمّة وارءه . فهل كان من المفترض أن ينتهى الأمر عند هذا الحد ، وتتوقف أهداف رسالة النبى عن النمو والتطور


بمجرد موته ، لا والله ، لقد استطاع هذا القائد العظيم الهمام " محمد بن عبد الله " أن يربّى كوادر لحركته الإصلاحية


العقائدية الجديدة يحملون رايتها بعد رحيله . وترك صفوفا من الصحابة قادرة على إكمال ما بدأه . ولعلّ "أبا بكر الصديق" ،


"وعمر بن الخطاب"، " وعثمان بن عفان" ، وباقة زهور من عظماء الرجال أن يكوّنوا طلائع الصف الأول . فى


حين أن " على بن أبى طالب " و " عبد الله بن عمر" و " زيد بن ثابت" ، وباقة من شباب المسلمين الذين تربوا


فى كنف الإسلام منذ سنوات صباهم الأولى ، أن يكوّنوا طلائع الصف الثانى ، وهؤلاء جميعا ، الصف الأول


والثانى ، نُطلق عليهم " الصحابة " ، الذين ساروا فى البلاد ينشرون الفكر العقائدى الجديد - الإسلام - مكوّنين


صفوفا أخرى ، نُطلق عليهم " التابعين " ، الذين انطلقوا بدورهم يكوّنون صفوفا أخرى نُطلق عليهم " تابعى


التابعين " ، لتستمر كوادر حركة الإصلاح الدينى فى منطقة الشرق الأوسط فى التوالد ، زاد فى بعض العصور


أو قلّ عددها ، إلاّ أنها باقية مستمرة بإذن الله تعالى . ولكن مع تلك الشرارة التى أطلقها " محمد بن عبد الله"


ثم رحيله ، كان من المهم ، بل من الضرورى أن يقوم الصحابة ، لاسيما من الصف الأول على تثبيت أركان


هذه الحركة الإصلاحية الوليدة فى المنطقة التى بدأت منها - الشرق الأوسط - ، ثم لتنتقل بعد ذلك على أيديهم


وعلى أيدى الصف الثانى والصفوف الأخرى إلى باقى أنحاء العالم ، لتصل إلى القرن الحادى والعشرين ، ليبلغ


عدد معتنقى الإسلام اليوم إلى ما يقرب من المليار ونصف المليار مسلم فى كل أنحاء العالم . ولعلى فى الحديث


عن " أبى بكر الصديق" و " عثمان بن عفان " سوف أعتمد على كتابين نستقى منهما ملامح تلك الفترة - فترة


النبى " ص" والأحداث التى عاشها أبطال هذا الموضوع الثلاث- ، الكتابان هما " تاريخ القرآن " للدكتور عبد


الصبور شاهين ، والكتاب الثانى " خلفاء الرسول " للشيخ خالد محمد خالد .


الحياة قبل بعثة "محمد " "ص" ، كتاب خلفاء الرسول صفحات 24:21


مكة ، البلد الحرام الذى تتوسطه الكعبة ، موطن القداسات منذ رفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، تمضى


الحياة فيها لافحة مثل مناخها ، راسخة مثل جبالها ، حالمة مثل سمائها ، واهلها عاكفون على عقائد وتقاليد تسمو


أحيانا حتى تبلغ أوجا بعيدا ، وتسفّ أحيانا حتى تبعث على السخرية والرثاء . وحول الكعبة أصنام مبثوثة تطفلت


فى غفلة الزمن على هذا الحرم الأقدس الذى ظل قرونا ، ولبث أحقابا يمثل راية الله المرفوعة فى الأرض ، تنادى


أهل الحنيفية والتوحيد. هى كذلك دهرا طويلا ، حتى جُلبت إليها الأصنام ذات يوم ، وازدحمت حولها مع الأيام


حيث صارت مهوى أفئدة " قريش" وما حولها ، يعبدها الناس ويتقونها ، ويتملقونها ، لتقرّبهم إلى الله زلفى .


فهنا اللات ، والعُزى ، ومناة . وهناك إساف ، ونائلة ، وهُبل، وعشرات سواهن من الأوثان والأصنام ، وإن


موكب العابدين لتسعى ليل نهار إلى تلك الآلهة المجلوبة ، والمنحوتة . الآلهة التى لا تسمع ، ولا تُبصر ، ولا تُغنى


عن أحد شيئا . لكل قبيلة إلهها وصنمها ، وكل طفل يولد ، لا يلبث حين يدرك الحبوْ، حتى يُقاد إلى ربه ليعرفه


وليسعى إليه فيما بعد ، ويبثه أمله ونجواه . وتاهت العقول فى زحمة الخرافة ، وكان أمرا عجيبا ، فذوو الأحلام


الرشيدة " قريش" الذين أنشأوا حلف "الفضول" ، حيث يقفون جبهة واحدة مع المظلوم ضد الظالم ، والذين استنّوا


للسلام منهجا فذا ، وابتكروا له سنّة باهرة ، فأسّسوا نظام " الأشهر الحُرم " تُقر السيوف خلالها فى أغمادها


وتنام الأحقاد والثارات نوما عميقا ، ويلقى الرجل فيها قاتل أبيه أو أخيه ، وقد مكّنته الظروف منه ، فلا يحصبه


بحصاة ، ولا يقربه بسوء . والذين وضعوا للسؤدد الاجتماعى نظاما رفيعا ، فلا يُسمح لأحد أن يسود فى قومه


إلاّ إذا تفوّق فى هذه الخصال الست : السخاء، النجدة ، الشجاعة ، الحلم ، التواضع ، البيان . وكانوا يقولون :


" موت ألف من العيلة ، خير من ارتقاء واحد من السّفْلة " . والذين كان لهم سوق " عكاظ" ، ييمّمون وجوهم


شطره من كل مكان ، ليلتقوا فيه بأشهى ثمار النبوغ الإنسانى ممثلا فى شعر شعرائهم ، وبيان خطبائهم . هؤلاء


المحلقون عاليا ، عاليا ، ترين على أفئدتهم هذه الغفلة العجيبة ، فيخرّون ساجدين أمام أصنام نحتوها من حجارة


أو عجنوها من صلصال، مفارقات محيّرة ، ولكن ليسوا فى هذا وحدهم . ففى " أثينا" ، وفى أزهى عصورها


عصر الفلسفة والفلاسفة ، وعصر " سقراط" و " باركليز" ، كان أهل " أثينا " يعبدون آلهة الأولمب ، أصناما


كأصنام " مكة " ، بل إن أهل مكة كانوا ينظرون إلى أصنامهم نظرة إكبار وتنزيه ، أما أهل أثينا ، فكانوا يعبدون


آلهة ، خلعوا علي بعضها أسوأ الصفات . ومع عبادة الأصنام التى سادت فى مكة ، كان هناك صنوف أخرى


من العبادة تزخر بها أنحاء الجزيرة العربية . فكان هناك من يعبدون الشمس، مما جعل الرسول صلى الله عليه


وسلم ، حين بُعث ، وفُرضت الصلاة ، ينهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ، حتى لا يكون


ذلك محاكاة - ولو غير مقصودة - للذين يعبدونها ، ويخرون لها ساجدين لحظة الشروق ولحظة الغروب .


وكان ثمت من يعبدون الملائكة ، هؤلاء الذين ناقشهم القرآن الكريم فيما بعد ، فيقول تعالى :" ويوم نحشرهم


جميعا ، ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ، قالوا سبحانك ، أنت وليّنا من دونهم " . وكان هناك


من يعبدون الجن ، هؤلاء الذين سينعتهم القرآن الكريم ، فيقول تعالى :" بل كانوا يعبدون الجن ، أكثرهم بهم


مؤمنون " . وكان هناك عبدة الكواكب ، الذين سيؤنبهم القرآن الكريم ، فيقول تعالى :" وأنه هو رب الشعرى " .


وكان هناك الدّهريون ، الذين روى عنهم القرآن الكريم فيما بعد قولهم ، فيقول تعالى :" ما هى إلاّ حياتنا الدنيا


نموت ونحيا ، وما يُهلكنا إلاّ الدهر" . ملائكة ، وجن ، وكواكب، وأصنام . أين ملّة " إبراهيم " وسط هذا


الزحام . إنه منذ القرون الأولى ، هاجر إلى البلد المنيع الآمن ، إنسان متبتّل ، غادر قومه الكلدانيين ، وترك


وطنه وأهله فى بابل ، وجاء مكة حاملا كلمة " الله " . وهنا فى مكة حطّ رحاله ، ورفع رايته ، وهتف بالتوحيد


وقال قولته الباقية :" وجهت وجهى للذى فطر السماوات والأرض ، حنيفا وما أنا من المشركين " . وتركها


باقية فى عقبة ، مُدوّية فى أفق الجزيرة الواسعة . فماذا دهى الناس . وهل ضاعت الحنيفية المؤمنة الموحّدة ، وسط


الوثنية الطارئة ، والشرك الزاحف، وهل أقحل هذا البلد الأمين ممن يُجدد للناس دينهم الأول ، ممّن يرفع صوته


مذكرا بالحقيقة الدارسة . كلا ، ولقد كان عبر السنين والأجيال هداة يبزغون بين الحين والحين ، يلوّحون براية


إبراهيم ، ويرفعون أصواتهم داحضين الشرك والزيغ ، كانوا كثيرين ، منهم من نعرف ، ومنهم من لا نعرف


منهم من سبق الرسول بمئات السنين ، ومنهم من كان إرهاصا بين يدى فجره الطالع القريب"


"انتهى الاقتباس"


أولا : " عثمان بن عفان " رضى الله تعالى عنه ،


ولمّ شمل المسلمين حتى آخر الزمان


ولعلى أقوم بترتيب منْ هو أكثر تأثيرا فى الفكر الإسلامى بعد الرسول "ص" مباشرة ، ولعل يتفق أو يختلف


معى أحد فى هذا الترتيب ، إلاّ أن اختلاف الرأى لا يُفسد للحركة الإصلاحية الإسلامية قوتها وازدهارها فى ذلك


الوقت الذى هو موضوع حديثنا - بعد وفاة النبى "ص" - وتولّى أبى بكر الصديق ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم


عثمان بن عفان، خلافة المسلمين ، حيث إن - من وجهة نظرى - أضع " عثمان بن عفان " فى المقام الأول


من حيث قوة التأثير فى الفكر الإسلامى ، ثم " أبا بكر الصديق " ثم " عمر بن الخطاب" رضى الله تعالى عنهم


جميعا ، دون أن يقلّل ذلك من عظمة أيهم. ولكنّا نحب أن نضيف وجهة نظر نقدية لا أكثر من ذلك . فكيف يكون


عثمان بن عفان ، هو أكثر الشخصيات تأثيرا فى الحركة الإصلاحية فى الشرق الأوسط بعد الرسول " محمد " "ص"


مباشرة . لعلّ الإجابة السريعة التى سوف نلجأ إلى تفصيلها هى " أنه قام بوقف العمل بقاعدة " الأحرف السبعة "

فى وقت غاية فى الصعوبة ، فلنبدأ فى الشرح إذا

تسجيل النص القرآنى

حينما كان يهبط جبريل عليه السلام بالآيات المحكمات على الرسول "ص" ، كان الرسول يقوم باستدعاء "كتبة

الوحىّ" على الفور ، ليقوموا بتسجيل الآيات على العُسب واللخاف والأكتاف والحجارة والعظام ، وكان يأمرهم

"ص" أن يضعوا هذه الآية فى مكان وجود آية كذا ، فى سورة كذا . ووصل عدد "كتبة الوحىّ" إلى ثلاثة وأربعين

كاتبا منهم أبو بكر الصديق ، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان ، علىّ بن أبى طالب، الزبير بن العوام ، عبد الله بن رواحة ،

أبىّ بن كعب ، وزيد بن ثابت وغيرهم من الثقات . وقد تمت عملية الكتابة فى مكة بين كتاب قرشيين ، وفى

المدينة بيد جماعة مختلطة من المهاجرين والأنصار. وبعد كتابة الآيات بيد " كتاب الوحى"- كما أُطلق عليهم -

يتم حفظ كل ذلك فى بيوت أمهات المؤمنين .

الأحرف السبعة

عن أبىّ بن كعب قال : لقى رسول الله جبريل عند أحجار المراء ، فقال له : إنى بُعثت إلى أمة أميين ، منهم الغلام ،

والخادم، والرجل العاسى ، والمرأة العجوز، فقال له جبريل : فليقروأو القرآن على سبعة أحرف " إسناده صحيح .

حينما قضى الرسول ثلاث عشرة عاما فى مكة يدعو للإسلام ، التفّ حوله كثيرون من خيار وفقراء مكة ، وكانوا

فلنطالع فقرات من كتاب " تاريخ القرآن" صفحات 81 ،82: " حتى كان مجموع المؤمنين كلا متجانسا ، أغلبهم

من قريش ، وعددهم محدود ، واتصالهم بالنبى ، المعلم الأول ، دائم ، وعهدهم بالإيمان قريب، فهم من كل وجه

عددا ، ونوعا ، وظرفا "من الظروف" ، قادرون على حفظ القرآن ، وتلاوته صحيحا سالما من الغلط والتحريف

، وتدلنا قصة إسلام عمر بن الخطاب ، على أنهم كانوا أيضا يكتبون النص، فقد كان لدى أخته صحيفتان فيهما

شئ من القرآن ، فى ذلك الوقت المبكر، وحتى العاجزون منهم - إن وجدوا - كانت لديهم الفرصة أن يقوّموا
ألسنتهم ، وان يراجعوا رسول الله ، ويراجعوا أصحابهم لتصحيح خطئهم . وحين هاجر النبى وصحابته إلى المدينة ،
تغيّرت الحال ، فمن حيث الكم ، زاد عدد المؤمنين بالدعوة ، ودخل الناس فى دين الله أفواجا، وأُتيح للدعوة فى
المركز الجديد - المدينة - أن تُراسل الأقوام والقبائل فى شتى أنحاء الجزيرة العربية وخارجها ، وجاءت الوفود
تترى ، ممثّلة لمختلف اللهجات والألسنة . يُضاف إلى ذلك أن العهد الجديد يحتاج إلى إمكانات واسعة فى تبليغ
الدعوة ، ونشر القرآن ، نصها المنزل ، ليكون دستورا للحياة الإسلامية فى الدولة الجديدة ، كذلك كانت أعمار
المؤمنين تتفاوت ، وأكثرهم من الكبار الذين فاتهم التعليم والحفظ، فأصبح من العسير أن يداوموا على استظهار
القرآن ، والنبى "ًص" ، فوق ذلك كله مشغول بمسئوليات هائلة فى التوجيه ، والتنظيم ، والحكم ، والحرب ، والسلام ،
والدعوة ، وتقرير النظم والعقائد والفتوى ، وتلقّى الوحى وإملائه ، ومراسلة الملوك والشعوب ، كل هذه الظروف
جدّت فى المجتمع ، وأحاطت بالنبى وصحابته . فى مثل هذا الزحام من الناس ، ومن المشكلات ، لا تعرف الحياة
الأناة ، فمن استطاع أن يظفر بقطعة أو قطعتين من فم النبى ، فقد واتاه خير كثير ، وليقرأ بقدر ما تُسعفه
ذاكرته
ولهجته ، وزكانته ، فى حدود ما علمه الرسول . هذا الوصف السريع للحياة الجديدة ، هو الذى اقتضى سنّ هذه
الرخصة فى تلاوة القرآن ، وهى موقوتة - ولا شك - ببقاء مقتضياتها ، زائلة ، بزوال أسبابها ، أى بعودة
الحياة إلى مستوى من الاستقرار والهدوء والتجانس ، قريب من مستوى العهد المكى ، وهو ما لم يحدث إلاّ على
عهد عثمان بن عفان . " "انتهى الاقتباس"
ولنطالع فقرات من نفس الكتاب " تاريخ القرآن " صفحات 92 ، 93 : " نستطيع من خلال هذه النصوص وغيرها
أن نثبت عدة أمور : أولا: إن الرسول ، كان يجد بعض أمته يعانون من المشقة والعُسر فى قراءة القرآن الكريم
ثانيا : إن الرسول كان يشعر بضرورة أن يحدث إجراء ييسّر على الناس قراءتهم للقرآن الكريم . ثالثا : كان
الرسول مقتنعا بأن هذا الإجراء يجب أن يكون وحيا من الله تعالى ، فتقدّم بطلبه إلى جبريل ، وساعد فى ذلك
ميكائيل بقوله : استزده. رابعا : حمل جبريل الأمر بعد تكرار إلحاح النبى فى أن يحقق الله له ما يرجوه ، فكان
الأمر الإلهى على ما جاء فى حديث آخر لأبىّ بن كعب : " إن الله تبارك وتعالى ، يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن
على سبعة أحرف ، فمن قرأ منها حرفا ، فهو كما قرأ" " انتهى الاقتباس" .
ويثور التساؤل : ما معنى كلمة " حرف" ، ولماذا " سبعة " ، وما هى أشكال التطبيق العملى التى وُجدت بالفعل
لدى المسلمين فى تلك الفترة . نطالع الكتاب "تاريخ القرآن " صفحات 82 ، 83 : " فالذى نرجّحه فى معنى
الأحرف السبعة ، ما يشتمل على اختلاف اللهجات ، وتباين مستويات الآداء الناشئة عن اختلاف السن ، وتفاوت
التعليم ، وكذلك ما يشمل اختلاف بعض الألفاظ ، وترتيب الجمل بما لا يتغيّر به المعنى المراد. وإذ كانت الأحاديث
الواردة فى الباب لم تحدّد تحديدا قاطعا المراد بها ، وبتخصيص العدد ب" سبعة " ، فليس لنا أن نحدس بهذا المراد،
وخير برهان على أن دلالة العدد هنا غير مرادة لذاتها ، أن الصحابة ، وهم أكثر الناس معاناة للمشكلة ، كانوا
يتقبّلون الأمر على أية باب من التوسعة والتيسير ، كما حدّثهم الرسول ، وكانت دلالاته - حديث الأحر ف السبعة -
تتسع يوما بعد يوم ، كلما جدّ جديد فى محيط الدعوة ، أو وفد واقد من الأصقاع البعيدة يحمل معه تقاليد لهجة
غريبة ، يقرأ بها القرآن ، ويتسع لها دائما مدلول " الأحرف السبعة " . فمن مجانبة التوفيق - فى رأينا - أن
نحاول حصر الأحرف السبعة - المرادة فى ذلك العهد - بسبع لغات مجتمعة ، ومتفرقة ، معيّنة أو شائعة . وهنا
نلتقى مع "الطبرى " فى قوله بفكرة إلغاء هذه الرخصة بفضل " عثمان " ، حين جمع القرآن ، وكتب المصاحف
فجمع بذلك الناس على حرف واحد دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية " " انتهى الاقتباس" .
وقبل
أن نتعرف على أشكال لتطبيقات المسلمين لهذه الرخصة وقتنئذ ، والتى من خلال ذلك يمكن أن نُعزى معنى
كلمة " حرف" إلى " إمكانية " لقراءة القرآن الكريم ، وكما نقول ، قراءة فقط ، وليس تسجيل ، فالآيات كان
يخطها " كتبة الوحى " كما يتنزّل بها جبريل ، دون أى تحريف ، أما حين كان يقوم الصحابة بتعليم الناس آيات
من القرآن ، فكان اختلاف اللهجات ، والسن ، والتعليم ، عاملا فى ضرورة إعمال رخصة " الأحرف السبعة ".
تعدّد القراءت ، القراءة بالمعنى
ظهرت نتيجتان عن إعمال رخصة " الأحرف السبعة "
الأولى : تعدّد القراءات
الثانية : القراءة بالمعنى
أولا: تعدّد القراءات
فلنطالع فقرات من كتاب " تاريخ القرآن " صفحات 48 : 50 :" على ان من الواجب أن نقرّر هنا أن وجود
القراءات القرآنية الآن أصبح من تاريخ القرآن ، يهتم به النحويون ، والمفسرون ، والمؤرخون ، للفترة الأولى
من الحياة الإسلامية ، وليس صحيحا أن القراءات تُعتبر من النص القرآنى ، فهناك فرق بين القرآن والقراءات .
وهما فى الواقع يمثلاث حقيقتين متغايرتين ، فالقرآن هو ذلك النص المنزل بواسطة الوحىّ على قلب الرسول
والثابت بالتواتر ثبوتا قطيعا لا ريب فيه . أما القراءات ، فهى روايات ووجوه آدائية ، منها المتواتر ، ومنها
الصحيح ، ومنها الضعيف، ومنها الموضوع، وهى بذلك تغاير القرآن تغايرا كبيرا ، لأنها تتعلق باللغة لا بالتركيب.
وقد استقر أمر النص الكريم فى زماننا على هذا الالتزام بقراءة " حفْص عن عاصم " ، القارئ الكوفى العراقى .
وهى التى صدرت بها تقريبا كل طبعات المصحف فى جميع أنحاء العالم ، ما عدا الطبعة التى صدرت بقراءة
" ورش عن نافع " وهى شائعة فى الشمال الإفريقى . وقد تكون هناك طبعة للمصحف على قراءة " الدورى "
عن "أمل عمرو " فى السودان . وإنا لنرى أن مصلحة المسلمين أن يقرأوا القرآن بطريقة آدائية واحدة ، وأن
تنتهى حالة هذا الاختلاف الشكلى . " " انتهى الاقتباس" .
ثانيا : القراءة بالمعنى
أولا: فى اللهجات :
بسبب اختلاف اللهجات ، فكان البعض يقرأ قوله تعالى :" إنا أعطيناك الكوثر " ، بهذه الطريقة : " إنا أنطيناك
الكوثر" . حيث كان حرف " العين " يُقلب " نونا" فى كلامهم شكل عام . كذلك أسماء مثل " ميكائيل" ، كان
ينطقها البعض بسبب اختلاف اللهجات : ميكل، ميكيل، ميكال. كذلك " جبريل " كان ينطقها البعض " جبرال".
ثانيا : فى الأدوات :
وكان التيسير فيها لعلاج صعوبات التذكر لدى الكثير من البسطاء والذين تدافعوا إلى اعتناق الإسلام . ففى قوله
تعالى :" ولسوف يعيطك ربك فترضى " ، كانوا ينطقونها " وسيعطيك ربك فترضى " . وكذلك فى قوله تعالى
" سوف يؤتيهم " كانوا ينطقونها " سيؤتيهم " .
ثالثا : التقديم والتأخير:
فكان البعض يقرأ قوله تعالى :" فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مقال ذرة شرا يره " ، كانوا يقدمون
ويؤخرون ، فيقرأونها هكذا :" فمن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " .
رابعا : إبدال كلمة مكان كلمة على سبيل الترادف :
فكان البعض يقرأ قوله تعالى :" إن ناشئة الليل هى أشد وطئا ، وأقوم قيلا" ، يقرأونها هكذا :" إن ناشئة
الليل هى أشد وطئا ، وأصوب قيلا " حيث إن أقوم وأصوب واحد ترادفا .
خامسا : إبدال كلمة مكان أخرى على سبيل الفهم لا الترادف :
فكثير من البسطاء لم يكن يفهم معنى " الذرّة " فى قوله تعالى :" فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " ، فكانوا
يقرأونها هكذا :" فمن يعمل مثقال " نملة " خيرا يره " . حيث إن " النملة " هى ذلك المخلوق المتناهى الصغر
والذى يعمل فى دأب دائم من أجل لقمة العيش ، وهى - النملة - خير مثال لإدراك الشئ القليل بالنسبة لهم .
سادسا : إبدال نهايات السور بنهايات مماثلة :
فكان إذا قرأ أحد ما أية قرآنية تنتهى مثلا بقوله تعالى :" غفور رحيم " ، ولكثرة مثل هذه النهايات فى آيات القرآن
ممّا كان يشكّل صعوبة على كثير من المسلمين فى بداية اعتناقهم وتوججهم لهذه الحركة الإصلاحية العقائدية
الناشئة ، فكان من ضمن رخصة " الأحرف السبعة " أن يبدّل الكلمتين بقوله تعالى :" عزيز رحيم " على سبيل
المثال ، شريطة ألاّ يُنهى أية رحمة كقوله تعالى " غفور رحيم " ، بآية عذاب ، كأن يبدّلها بقوله تعالى :" شديد
ذو انتقام " والعكس .
أهل حمْص، أهل دمشق، أهل الكوفة
استمر العمل برخصة " الأحرف السبعة " من أواخر العهد النبوى ، واستمر أثناء عهدى الخليفتين " أبى بكر الصديق " ،
و " عمر بن الخطاب" و حتى السنوات الست الأولى من حكم " عثمان بن عفان " . حيث بدأ يتوسّعون فى استغلال
رخصة " الأحرف السبعة " ، حتى خرجت عن حدودها ، وانطلقت من نطاق المشافهة ، إلى نطاق الكتابة ، حيث
كان يعمد المسلمون إلى تسجيل الآيات التى يحفظونها فى بعض الصحف ، إذا لقد بدأ كل مسلم ، أو كل جماعة
تسجّل النص حسبما تحفظ هى أو حسبما تقرأ ، لا كما يجب أن يكون النص القرآنى المُنزل من السماء ، والمحفوظ
فى بيت " حفْصة بنت عمر بن الخطاب " زوج الرسول ، وأم المؤمنين. فالنص القرآنى الآتى من السماء ، أشرف
الرسول "ص" على كتابته كاملا على العُسب واللخاف والأكتاف والعظام ، وفى عهد " أبى بكر الصديق" قامت
أول عملية توثيق لجمع القرآن الكريم من كل هذه الأشياء ليأخذ صورة الكتاب الواحد ، واستقرت النسخة الجديدة
عند أبى بكر الصديق ، ثم انتقلت لبيت عمر بن الخطاب ، وقت خلافته للمسلمين ، ثم انتقلت إلى بيت ابنته "حفْصة ".
وهكذا كان النص القرآنى الأصلى مثبت وموثّق ومحفوظ ، لكن الصحف انتشرت بين المسلمين من صنع أيديهم
هم ، وكما يحفظون هم مستغلين رخصة " الأحرف السبعة " ، وهنا كانت الخطورة .
حذيفة بن اليمان
حيث شهد واقعتين ، دق بهما ناقوس الخطر لدى الخليفة " عثمان " ، ولنطالع كتاب " تاريخ القرآن " صفحة 182 :
" وفى زمان عثمان تفاقم الأمر، فقد تولى الخلافة سنة أربع وعشرين ، واستم عهده بكثرة الفتوح ، ومضت
ست سنوات من الغزو والتوسع ، وأمر إقراء القرآن موكول إلى المسلمين الذين حملوا معهم محفوظهم منه ما
وسعهم اقتدارهم على الضبط والآداء . وكانت الفروق بين ما يقرءون وما ينبغى أن يكون عليه النص المنزل
تتسع شيئا فشيئا ، وهم لم يكونوا فى ذلك عامدين ، بل متحرين وجه الصحة بقدر الإمكان ، إلى ان كانت سنة
ثلاثين ، حين توجه " حذيفة بن اليمان " ومعه " سعيد بن العاص" إلى أذربيجان ، فأقام " سعيد " حتى عاد
حذيفة من بعض أسفاره . ثم رجعا إلى المدينة ، وفى الطريق قال حذيفة لسعيد بن العاص: لقد رأيت فى سفرتى
هذه أمرا ، لئن تُرك الناس ، ليختلفُن فى القرآن ، ثم لا يقومون عليه أبدا . فسألة سعيد : وما ذاك . فأجابه حذيفة :
رأيت أناسا من أهل حمْص يزعمون أن قراءتهم خير من قراءة غيهم ، وأنهم أخذوا القراءة عن المقداد.
ورأيت أهل دمشق يقولون :إن قراءتهم خير من قراءة غيرهم . ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك ، وأنهم
قرأوا عن " أبى موسى " . "انتهى الاقتباس" . حيث ذهب حذيفة إلى عثمان وقال له : أدرك الأمة ، فجمع
عثمان الصحابة وشاورهم فى الأمر ، فرأوا خطورة ما رأى " حذيفة " ، فأرسل عثمان إلى حفصة : أن أرسلى
إلينا بالنسخة ، ننسخها ثم نعيدها إليك .
وكما جرت عملية التوثيق فى المرة الأولى على عهد أبى بكر الصديق - ولسوف نتعرض لمزيد من التفصيل
عنها حين الحديث عن أبى بكر - ، جرت عملية التوثيق مرة ثانية ، وتم نسخ النص القرآنى عدة نسخ ، تمّ توزيعها
على كافة الأقطار الإسلامية ، وكان الأمر المباشر ، هو العمل على جمع كل الصحف التى كتبها المسلمون فى
كل مكان من الولايات الإسلامية ، وتم حرقها جهارا . كما تم توحيد المسلمين تحت راية مصحف واحد ، هو
" مصحف عثمان " الذى نسير عليه الآن . واستطاع عثمان إنقاذ الأمة التى طفق كل فريق منهم لا يختلف فقط
مع الآخرين ، بل صاروا يكفّرون بعضهم بعضا . لكن الأمر لم يكن سهلا ، وما أمر به " عثمان " من جمع
المصاحف المكتوبة بأيدى المسلمين من كافة الولايات الإسلامية ، وحرقها جهارا ، ما حرك النار فى القلوب
وكان هو الشرارة التى أشعلت النار . فهذا الأمر ، فى ذلك الوقت ، كان يحتاج بالفعل إلى من صدقت نيته
لله تعالى ، لماذا ، فلنطالع فقرات من كتاب " خلفاء الرسول " للشيخ خالد محمد خالد ، نتلمس من خلالها :
أولا: الظروف التى تولّى فيها عثمان الحكم
ثانيا : المآخذ التى أخذها المسلمون على عثمان
ثالثا : مواقف توضح خطورة أمر عثمان بتوحيد المسلمين تحت راية مصحف واحد من ناحية ، وتوقيت اتخاذ القرار من ناحية ثانية
أولا: الظروف التى تولّى فيها " عثمان " الحكم :
كتاب " خلفاء الرسول " الصفحات 241 ، 242 :
" لقد كُتب على الخليفة عثمان أن يحمل مسئولية الحكم فى ظروف ليس لها فى جميع التاريخ نظير ، وقبل أن
أُتهم بالمبالغة فى هذا التعبير ، أسارع فأقول: إنه حمل تلك المسئولية الجسيمة فى فترة من الزمان ، كانت ختاما
لعصر نبوى ، بكل ما فيه من ورع وتقوى وصمود وإخبات ، وبداية ل " عصر إمبراطورى " بكل ما يحمل
من مباهج ، ومخاطر ، ومغريات . صحيح أن الفتوحات الهائلة ، كانت قد أرست قواعدها فى عهد أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب ، وأخذت دولة الإسلام ، ذلك الشكل السياسى الذى يُسمى " بالإمبراطورية " ، وإن لم يرها
المسلمون كذلك . بيد أن أمير المؤمنين " عمر" ، ألقى بكل عزمه وثقله فى الكفة اليمنى من الميزان ، حتى يظل
عصر النبوة قائما وسائدا بكل آدابه ، وتقاليده ، وتبتّله ، وورعه ، متوسلا بذلك القمع الرهبانى الذى فطم به الأنفس
ومنعها هواها . ولم يكن من طبائع الأشياء أن يدوم هذا النُسك ، فالتفوحات تزخر بتناقضات يُنادى بعضها بعضا
ورياح التغيير المحتوم تسوق دولة الإسلام ومجتمعه إلى مطالع جديدة ، لا مفر من لُقياها بكل ما فيها من صفاء
وكل ما فيها من غيوم . وكان اغتيال الخليفة " عمر بن الخطاب" إشارة بدء بمقدم عصر جديد وهو عصر لن يتخلى
فيه المسلمون عن رايتهم ولا عن مبادئهم ، لكن ستزحمهم فيه علاقات جديدة ، وتقاليد طارئة ، ومشكلات وافدة
ستفرض الكثير من إرادتها على رتابة الحياة ، ومنهج الدولة ، وتطلعات المجتمع . وفى هذه الفترة الحرجة ، والسنوات
الصعبة ، دعت المقادير " عثمان " ليحمل المسئولية الرهيبة ، مسئولية الإبقاء على روح " عصر النبوة " والتفاعل
مع عصر " الإمبراطورية " . فهل وجد سبيله إلى ذلك . نعم ، وبملء اليقين ، وستحدثنا عن ذلك إن شاء الله
حديثا مفيضا ، صفحات هذا الكتاب . سنرى من أى طراز جليل ، كانت شخصية عثمان ، ومن أى طراز كانت
خلافته ، وكان حكمه ، وما الذى أغرى الأزمات الضاريات بأيامه وعهده ، وهل ذهب شهيد فضائله ، أم ضحية
أخطائه ." " انتهى الاقتباس"
ثانيا : المآخذ التى أخذها المسلمون على " عثمان "
فلنطالع كتاب " خلفاء الرسول " صفحات 313 ، 338
" فى استطاعتنا أن نرد تلك المآخذ كلها إلى أربعة أصول : أولها : عن الولاة : فقد أخذوا عن الخليفة أنه عزل
نفرا من الصحابة ، ووضع مكانهم نفرا من أقربائه الذين لم تكن لهم أو لبعضهم على الأقل سابقة ترفعهم إلى
مستوى الولاية على المسلمين . ثانيها : عن الأموال العامة ، فقد قيل إن الأمويين استغلوا صلتهم وقرابتهم ، واستحوذوا
على ما ليس لهم بحق . ثالثها : عن موقفه من بعض فضلاء الصحابة ، وعن بعض الإجراءات العنيفة التى
أُتخذت ضد بعضهم . رابعها : عن موقفه من بعض مسائل الدين . " الاقتباس الأول ".
" لم يكتف المتمردون بتلك الاتهامات الباطلة التى راحوا يشغبون بها على الخليفة ، فراحوا يُرجفون بأن الخليفة
يبتدع فى الدين بدعا لم تكن على عهد رسول الله ، ولا فى عهد صحابيه . وقالوا : إن الخليفة وحّد المصاحف
كلها فى مصحف واحد ، وجمع المصاحف الأخرى ، وأحرق أوراقها ." انتهى الاقتباس الثانى " .
ولعلّ التناقضات الحادة الذى ظهر بين نظرية عمر بن الخطاب فى الحكم ونظرية عثمان بن عفان ، ما أدت فى
نهاية الأمر إلى مقتل عثمان بن عفان على أيدى عشرة آلاف من الثوار الذين التفوا حول بيته.
فقد اعتمد عمر بن الخطاب على رافدين اساسيين فى حكمه :
الرافد الأول :
هو زهد الحاكم فى مأكله ، وملبسه ، ومنامه ، حتى ليكون أكثر فقرا من فقراء المسلمين
الرافد الثانى :
الابتعاد قدر الإمكان عن تعيين أقرباء الحاكم .
لكن نظرية عثمان بن عفان كانت على النقيض تماما :
أولا:
لطالما عُرف عثمان بن عفان بثرائه ، وهو يرى أنه ليس على الحاكم أن يزهد تماما طالما كان يستطيع العيش
بطريقة كريمة من مال حلال ، لكن فى الحقيقة إن الثراء الذى ظهر على أقرباء عثمان بن عفان وولاته - وكان
أكثرهم من أقربائه - ما أفقد وجهة نظره تلك وجاهتها .
ثانيا : انتشر أقارب عثمان بن عفان ، يتولون ولاية الأمصار الإسلامية والمناصب الرفيعة فى البلاد ، فإن كان
عثمان بن عفان يرى أنه ليس شرطا لأنهم أقارب الحاكم ألا يتولون مناصب رفيعة ، لو توافرت فيهم الكفاءة
إلا أن التوسع فى تعيينه لأقاربه ، أفقد وجهة النظرهذه وجاهتها أيضا . يمكن لنا أن نشبّه ما حدث فى فترة حكم
عثمان بن عفان ، بأنه انفتاح اقتصادى غير محسوب ، جاء بعد فترة اشتراكية إسلامية قوية على يد عمر بن الخطاب .
وبالتالى ، ظهرت طبقة من الأمراء والولاة أثرياء ، وظهرت على النقيض منها طبقة من عامة المسلمين فقراء .
فقد كان عمر بن الخطاب ، يكبح جماح الجميع ، بادئا بنفسه . على أن عثمان رفض النزول على آوامر الثوار
الذين تجمهروا حول منزله مطالبينه بعزل بعض الولاة ، وتعيين آخرين ، فقد رأى أن مطالبهم هذه تعنى أن يتنحّى
هو شخصيا عن الحكم .فرفض عثمان ذلك ، ليس طمعا فى الخلافة ، ولكنه استشعر خطورة ضياع هيبة الحاكم
فى نفوس المسلمين ، لاسيما لم يكن وقتها ما يمكن أن نُطلق عليه " شرطة أو جيش نظاميين " .
على أية حال ،
انتهى الأمر بهجوم الثوار على عثمان ، وقتله وهو على سجادة الصلاة .
ثالثا : مواقف توضح خطورة أمر عثمان بتوحيد المسلمين
تحت راية مصحف واحد
فى ظل هذه الاضطرابات التى لم تكن تخفى على أحد ، اتخذ عثمان بن عفان ، قراره البطولى بتوحيد المسلمين
تحت راية مصحف واحد ، ومن ذلك الموقف الذى ذهب فيه رجل يشتكى توحيد عثمان للمصاحف ل " علىّ بن أبى طالب "
محاولا استمالة " علىّ" لاتخاذه رأس حربة فى الانقلاب على الخليفة " عثمان بن عفان " ، لكن " علىّ" لم
يكن ليقع فى هذا الفخ ، فصاح بالرجل : اصمت ، فوالله ، لو كنت مكانه لفعلت مثل ما فعل " .
كذلك نستطيع أن نقيس مقدار الاضطراب فى عهد عثمان ، بمحمد بن أبى بكر الصديق
فقد كان
من ضمن الثوار المطالبين برأس عثمان طالما لا يرد التنحى عن الحكم ، وحدث أن اقتحم " محمد بن أبى بكر الصديق"
منزل " عثمان " من دار مجاورة ، وكان عثمان جالسا على سجادة الصلاة ، فاقترب منه " محمد بن أبى بكر الصديق "
وامسك بلحيته ، وهزها فى عنف ، ولنطالع تفاصيل هذا الموقف أكثر فى كتاب " خلفاء الرسول" الصفحات 354 ، 355 :
" وما هى إلاّ دقائق معدودة ، حتى كانت الخطة قد أنجزت ، وفجأة رأى الخليفة امامه أولئك المتسورين ، ورأى
محمد بن أبى بكر الصديق يتقدمهم ، ويُمسك بلحية الخليفة بيده ، ويهزها متوعدا . وفى هدوء القديسين ، ناداه
الخليفة : يا ابن أخى ، دع لحيتى ، فوالله ، لقد كان أبوك - أبو بكر الصديق- يُكرمها ، ولو رآك فى مكانك
هذا ، لاستحيا مما تصنع . ودرات الأرض بمحمد بن أبى بكر الصديق ، وارتدت يده فى خشوع وندم ، وانطلق
مسرعا خارج الدار يسوق أمامه أولئك الذين كانوا قد تسوّروها معه ، وعلى بابها الفسيح ، وقف يذود المهاجمين .
وجُن جنون ذلك النفر من زعماء التفنة ، وهزهم موقف " محمد" هذا ، كما لم يهزهم موقف آخر ، وتراءى لهم
مصيرهم الأسود ، فشدوا على الدار المجاورة شدة واحدة ، ومن فوق سورها القريب ، قفزوا كالذئاب الجائعة
المسعورة ، واقتحموا على الخليفة خلوته ." "انتهى الاقتباس" . وانتهى الموقف كذلك باغتيال الخليفة عثمان بن عفان ،
رضى الله تعالى عنه وأرضاه . وعلى الرغم من غضب العامة من المسلمين من توحيد المصاحف ليكون مصحفا
واحدا ، واعتباره " بدعة " ، وربما كفرا ، إلاّ أننا ندين بالفضل لك يا سيدنا عثمان بن عفان ، ولسنا وحدنا فى
ذلك ، بل كل أجيال المسلمين التى تلت هذا القرار ، وأجيالنا ، وأجيال المسلمين إلى أن يرث الله تعالى الأرض
وما ومن عليها . فإذا كان المسلمون الآن وقد انقسموا على أنفسهم سنة وشيعة ، صوفية وسلفية ، جماعات وإخوان
وغير ذلك من التقسيمات ، فهل تُدركون يا سادة كم كانت ستكون المأساة لو لو يُوقف عثمان العمل بقاعدة " الأحرف
السبعة " ، وقام بجمع الصحف من أيدى الناس وإحراقها ، ونسخ العديد من المصاحف المأخوذة عن المصحف
الأصلى وقام بتوزيعها على كافة الأقطارالإسلامية . ولذا ، فإننى أُعد سيدنا " عثمان بن عفان " - رغم كم
المآخذ على نظريته فى الحكم - أعده ثانى شخصية مؤثرة فى الفكر الإصلاحى الإسلامى فى منطقة الشرق
الأوسط بعد سيدنا خاتم الأنبياء " محمد بن عبد الله " صلى الله عليه وسلم .
بعد مقتل عثمان
بعد محاولات مضنية ، قبل " على بن أبى طالب " كرم الله وجهه ، خلافة المسلمين ، فقد غضب مما حاق بالخليفة
عثمان بن عفان على أيدى الثوار ، الذين كانوا يمنعون الزاد والماء عن بيت الخليفة ، فيقوم " على ّ" بإحضارهما
له ، بل إنه أوقف ابناه " الحسن والحسين " رضى الله عنهما أمام الثوار ، وكل منهما يحمل سيفا ، وأمرهما والدهما
على ّ بن أبى طالب ، أن يذودا عن الخليفة بحياتهما . ولما أُغتيل " عثمان " عنفهما على ّ وتعجب كيف احتفظا
بحياتهما رغم اغتيال الخليفة . على أية حال ، لم يكن من بين الشخصيات المطروحة من يستحق الخلافة أكثر
من علىّ بن أبى طالب ، ففعل ، بعض رفض مضنى ، حيث رفض الخلافة الكثير من الصحابة بعد رفض على ّ
لها ، فلم يكن له فى النهاية سوى قبولها . لكن " معاوية " ، وهو أحد أقرباء عثمان ، وكان قد ولاه الشام ، رفض
الإذعان للبيعة التى تمت لعلى ّ من الصحابة ومن الناس من سائر الأمصار الإسلامية ، وطالب بالقصاص من
قتلة عثمان اولا، وأخرج جيشا له فى الشام رافعين قميص عثمان ، دلالة على المطالبة للثأر له . لكن ليس هكذا
تُجرى الأمور ، فلابد أولا أن يُجمع المسلمون على خليفة ، ثم ثانيا ، يتم التحقيق فى أمر اغتيال الخليفة عثمان
ثم أنّى لعلى ّ أن يتتبع أثر عشرة آلاف ثائر ، قد هتفوا فى نفس واحد بعد اغتيال عثمان :" كلنا قتلة عثمان ". لكن
معاوية ، كان طامعا فى الخلافة ، والاحتفاظ بما لديه من أموال وقصر وحاشية وجيش الخ . قام علىّ بن أبى
طالب ، الخليفة ، بتجهيز جيش لملاقاة جيش معاوية فى الشام للقضاء على هذه الفتنة . تطوّرت الأمور بعد كثير
من التفصيلات ، حتى وصلت إلى المدى الذى اقترح فيه عمرو بن العاص رضى الله تعالى عنه ، على معاوية
أن يقوم جيشه برفع المصاحف للتحكيم بينه وبين على ّ كحيلة لتشتيت أمر جيش على ّ ، ولاشك أن اقتراح عمرو بن العاص
هذا كان : محاولة صريحة لإقحام الدين فى خلاف سياسى يدور أساسا حول الصراع على السلطة من ناحية .
وكان وبالا على الأمة الإسلامية استمر أثره حتى الآن من ناحية أخرى . ذلك ان جيش علىّ بن ابى طالب ، بعد
قبول على ّ للتحكيم قد انقسم على نفسه بالفعل - ولا أدرى عمّا كانوا يبحثون فى كتاب الله القرآن الكريم عن
أمر سياسى دنيوى - فخرجت جماعة عن جيش على ّ وعليه هو شخصيا ناقمين ساخطين ، وسمّوا " بالخوارج".
طفقوا يهيمون فى البلاد الإسلامية يروّعون المسلمين ، وكان من يُظهر أى تعاطف لعلىّ يقومون بقتله على الفور .
طاردهم علىّ بمن تبقى فى الجيش بعد الانتصار على جيش " معاوية " وشتت شملهم ، وانتهى الأمر بعلىّ بن أبى طالب
الخليفة الرابع للمسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلى أن يتم اغتياله على أحد من هؤلاء الخوارج انتقاما
منه لما فعله بهم . ولكن فئة أخرى ثبتت مع على ّ وشايعته ، وأُطلق عليهم " الشيعة ".
أصل حركة " الشيعة "
فكما رأينا ، إن أصل " الشيعة " هو أصل سياسى ، لكن مثيرى الفتن ، والمتربصين بالدولة الإسلامية استطاعوا
أن يحوّلوها بدهاء من حركة سياسية نشأت فى ظروف وقتية - وكان من المفترض انتهاؤها بانتهاء هذه الظروف
واستتباب الأمر لعلىّ بن أبى طالب ، حيث انتصر بالفعل على جيش معاوية - إلاّ أن هؤلاء راحوا فى سبيل
تحويلها إلى حركة عقائدية دينية ، يلملمون الأحداث حولها ، ليس فقط ما سيجئ بعد على ّ وخلافته ، من أحداث
أو بعد نشأتها ، ولكن قبل نشأتها كذلك . ووضع مهندسو نظرية التفكيك فى الفكر الإسلامى ، فكرة " الشيعة"
على اساس حب " آل البيت" ، وطفقوا يختصمون عظماء الصحابة ، ويحرّضون اتباعهم على اختصامهم كذلك
لو كان قد بدر من أحدهم ما يمس فردا من آل البيت ، وكان العظيمان أبى بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، هما
أبرز ضحايا نظرية التفكيك هذه ، أو لو شئنا أن نسميها نظرية " آل البيت". فحينما توفى الرسول صلى الله
عليه وسلم ، ووكل كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار أمر خلافة المسلمين لأبى بكر الصديق ، فى سقيفة
سعد ، غضبت السيدة فاطمة الزهراء رضى الله تعالى عنها ، ابنة رسول الله "ص" ، لأنها كانت تريد أن يتولى
زوجها "علىّ بن أبى طالب" خلافة المسلمين بدلا من أبى بكر الصديق ، ولكن كما أسلفنا الذكر ، فإن " علىّ"
كان من صحابة رسول الله ، ولكن من الصف الثانى أو الرعيل الثانى أو الجيل الثانى ، وبحسبة بسيطة ، نجد
أنه حينما تنزّل الوحى على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، كان هو فى سن الأربعين ، فى حين اعتنق علىّ
الإسلام وهو طفل فى التاسعة من عمره. استمر الرسول فى دعوته لمدة ثلاث وعشرين عاما ، لو أضفناهم
إلى عمر علىّ ذى التسع سنوات وحتى وقت وفات الرسول "ص" ، لكان عمر علىّ حوالى اثنين وثلاثين عاما
، وقت وفاة الرسول ، فى حين إن أبا بكر الصديق كان فى مثل عمر الرسول ، وكان يقترب من عمر الرسول
الصف الأول من الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وغيرهما . وحدث أكثر من
مرة أن ذهب أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب للسيدة فاطمة الزهراء محاولين استرضاءها ، وتوضيح
خطورة موقف المسلمين فى الداخل والخارج ، لكنها أبت إلاّ أن تظل غاضبة ، فلم يكن من بد سوى انصرافهما
لتدبير شئون المسلمين ، ومواجهة تخطيط الأعداء المتربصين . ولكن هذا الموقف - غضب السيدة فاطمة
الزهراء من الصحابين الجليلين - تمّ استدعاؤه من التاريخ القريب ، ليكون لبنة فى نظرية " آل البيت " التفكيكية
ولكى يساهم فى تنمية الفكر الشيعى لتحويله من حركة سياسية وقتية إلى فكر عقائدى يطول زمانه. ولأن السيدة
عائشة ، ابنة أبى بكر الصديق ، وزوج الرسول "ص" ، وأم المؤمنين ، اعتركت السياسة - وقد ندمت أشد الندم
على ذلك فيما بعد - ، حيث احتدم الصراع بينها وبين علىّ بن أبى طالب ، وقت توليه الخلافة بعد اغتيال عثمان
مباشرة ، وفى الوقت الذى جهّز فيه علىّ جيشا لملاقاة جيش معاوية فى الشام ، كانت السيدة عائشة قد قامت
بتجهيز جيش آخر ، علم به علىّ ، وعلم كذلك أنه لابد وأن يواجهه أولا قبل مواجهة جيش معاوية ، والتقى الجيشان
- جيش علىّ وجيش السيدة عائشة - فى موقعة " الجمل" ، حيث انهزم فيها جيش السيدة "عائشة " أم المؤمنين .
ولأن علىّ بن أبى طالب هو ابن عم الرسول ، وبالتالى من آل البيت ، فقد لحقت كراهية السيدة " عائشة " لتأخذ
مكانها فى النظرية التفكيكية ، نظرية " آل البيت" ، وهى صياغة ومحاولة لتفرقة المسلمين لا تختلف كثيرا عن
نظرية " الفوضى الخلاقة " فى زماننا هذا والذى يقود عملها العدو الصهيو - أمريكى .
مفترق الطرق العقائدية
ونحن الآن يا سادة فى مفترق الطرق العقائدية ، والحرب الشعواء الصهيو - أمريكية على المسلمين الآن فى
العراق ، وأفغانستان ، وفلسطين ، ولبنان ، وغيرهم من البلدان الإسلامية ، هذه الحرب الشعواء تضع الجميع
أمام مسئولياتهم العقائدية لاسيما إخواننا من المسلمين الشيعة ، فى انتظار رد فعل شجاع منهم لوضع نظرية تفكيكية
عكسية ، يفكّكون بها نظرية " آل البيت " تلك. فإن كانت قد مرّت عقود من الزمن ، نما فيها الفكر الشيعى وكثرت
مؤلفاته ، وراجت شهرة مفكرية ومنظريه ، فإننا نذكّر أنه ينتظرنا جميعا ، نحن المسلمين ، آلاف من العقود
القادمة ، سيأتى خلالها آلاف مؤلّفة من أجيال المسلمين ، يستحقون منّا التخطيط العقائدى من أجل راحتهم
ولمّ شملهم ، ومنع الفرقة العقائدية بينهم . على أن العبارة التى كان يرددها أبو بكر الصديق دائما بشأن
علىّ بن ابى طالب هى :" أفتنا يا أبا الحسن ". والعبارة التى كان يرددها عمر بن الخطاب دائما بشأن علىّ بن أبى طالب
هى :" لولا علىّ ، لهلك عمر".

ثانيا : أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه ،
أوّل المصدّقين ، وسيّد حركة قمع المرتدين
إذا ما استفضنا فى شرح تأثير عمل " أبى بكر الصديق" فى مساندة و توجيه ودفع الحركة الإصلاحية العقائدية
الناشئة فى منطقة الشرق الأوسط على يد " محمد بن عبد الله " "ص" ، لكنّا محدّدين أبرز أربعة اتجاهات هى :
أولا: التصديق المبكّر للرسول ، فأبو بكر ، هو أول رجل يعتنق الإسلام ولذا لُقّب " بالصديق" ، والسيدة "خديجة بنت خويلد"
رضى الله تعالى عنها ، زوج الرسول الأولى ، هى أول سيدة تعتنق الإسلام ، و"علىّ بن أبى طالب" رضى الله
تعالى عنه ، هو أول طفل يعتنق الإسلام .
ثانيا : معركة " اليمامة " ،وحرب المرتدين كحرب سياسية للحفاظ على وحدة الدولة الإسلامية بعد وفاة الرسول ص، مباشرة .
ثالثا : جمع القرآن الكريم ، ليأخذ شكل الكتاب الواحد بدلا من العُسب واللخاف والأكتاف والعظام .
رابعا :
التواضع أثناء خلافته للمسلمين ، حيث أعطى بذلك امتدادا لروح النبى صلى الله عليه وسلم من ناحية ، ومثّل
القدوة فى ذلك لمن يأتى بعده لخلافة المسلمين .

أولا : التصديق المبكّر للرسول ص:
أولا: فلنطالع معا فقرات من كتاب " خلفاء الرسول " الصفحات 26 : 30 :
" هذا الرجل - أبو بكر الصديق- الذى يشغل بين قومه مكانة مرموقة أهّله لها كفايته وحسبه ، يحمل فى ذات
نفسه شكا مضنيا ، شكا يُربى فى قلبه يوما فيوما العزوف عن وثنية قومه وضلالهم . وإنه ليمر بالناس متحلّقين
حول أصنامهم ، وجاثين أمامها فتكسو وجهه سحابة اسف مرير ، ويسال نفسه :" أيمكن ان يكون هذا صوابا وهدى ".
أناس ينظرون ،ويسمعون ، ويعقلون ، يخرون سجّدا أمام حجارة مرصوصة لا تسمع ، ولا تُبصر. يحمله حنينه
وتقوده أشواقه إلى الذين عندهم علم من الكتاب ، الذين يعيشون فى ذكريات العقيدة الدارسة التى صدح بها هنا
ذات يوم بعيد ، خليل الله " إبراهيم " ، والذين شغلهم المصير الإنسانى ، فرفعوا أصواتهم بعقيدة البعث والجزاء
والذين طهروا قلوبهم تطهيرا من كل ولاء لصنم ، وآمنوا برب إبراهيم . هؤلاء الذين يُقلّبون وجوههم فى السماء
وتخرج الكلمات من أفواههم كالأحلام السعيدة . أى حديث يبهر ابا بكر ، ويستهوى لبه ، خير من حديث هؤلاء.
إن كلماتهم حين يلقفها سمعه، لترن فى روعه رنين الصدق ، وإنه ليتتبعها كما يتتبع الطير الظامئ مواقع القطر
والندى . وهكذا كان يستروح دوما كلما اسعفه وقته بالجلوس إلى هذا النفر الصالح . "قس بن ساعدة " ، " زيد بن عمرو"،
" ورقة بن نوفل" ، لم تكن قريش قد شطّت فى عداوة هؤلاء واضطهادهم لأنهم - أولا- كانوا عاكفين على
أنفسهم لا يحملون دعوة منظمة ، ولا دين جديد ، يهدد دين قريش وتقاليدها . ولأنهم - ثانيا - كانوا فى مرتفعات
أعمارهم ، فقد أوشكت حياة كل منهم على الغروب ، ولكن إعجاب رجل كابى بكر - مجرد الإعجاب- بهؤلاء
وبأفكارهم ، يعرضه لاستنكار قريش لا محالة . فهو فى ربيع العمر المرتجى ، وهو سيد فى قومه الذين أولوه
عملا من أهم وأجلّ اعمالهم ، فهو يومئذ " حامل الديّات" . ويفكر أبو بكر فى هذا . يفكر فيما يمكن أن يلحق
به من ضرّ ، إذ هو خرج من الصفوف المزدحمة ،وعلم الناس منه حفاوته بأفكار " قس" و" وورقة " و " زيد".
إن قسا ، وورقة ، وزيدا ، قد وضعوا عن كواهلهم كل علاقاتهم بالجماعة ، فلا يخشون بأسا ، ومع هذا ، فإن
قريشا وإن لم تناصبهم العداء ، لتعمل جاهدة على كبح جماحهم كلما ارتفع صوت زيد بن عمرو ، وكان أعلى
الثلاثة صوتا ، أغرو به قريبه " الخطّاب بن نفيل"، فأغلق عليه داره ،وحال بينه وبين الناس. فكيف بأبى بكر
وعلاقاته بالجماعة مشحوذة ونامية ، وهو فى قومه ملئ كل عين ، وكل أذن . أتأذن له قريش ولو فى مجرد
انطوائه على أحلامه الجديدة ، ورؤياه الصامتة ، وقبل أن يطول التردد بأبى بكر ، تلتمع خواطره ، فيرى القدوة
والمثل ، " محمد بن عبد الله " . إنه فى ربيع العمر والحياة ، وإنه حسيب نسيب، وإنه فى قومه كألمع دُرّة فى
التاج،ومع هذا ، فهو - فى هدوء- قد عزف عن الأصنام ، وإنه ليقضى أيامه بعيدا عن معابث الناس وعاداتهم
لا يكاد يلقى أحدا ولا يدع أحدا يختلس منه وقته ، واحلامه ، وسكينة نفسه ، يتعبّد اليوم بالتأمل حتى تأتيه عن
الحق بيّنة . ويطئن أبو بكر . إنه يستطيع أن يسلك نفس الطريق دون أن تكون لقريش عليه ثورة أو موجدة .
مثل " محمد " تماما . إنه لا يذكر الأصنام بسوء بعد ، ولكنه ايضا لا يذكرها بخير . لا يعبدها مع العابدين
ولا يسجد لها مع الساجدين ، ولا يتقرّب إليها ، ولا يُحس بوجودها . لقد جرّد نفسه أمّة وحده ، ومضى يبحث
عن الحق ، وهذا أعظم غرض تُناط به حياة إنسان ،وسرى فى أوصال نفسه برد اليقين . فأبو بكر ، وإن يكن
تجمعه ومحمدا سن واحدة ، إلاّ أنه يرى فيه مثلا أعلى وقدوة تدعو إلى الثقة . ولقد كان لهذا حريصا على صحبته
حفيا بزمالته . تذكّر أبو بكر حال صديقه وصفيه ، فتبددت محاذره من قريش ، وقرر أن يستجيب لحنينه ، ويمضى
مع أشواقه إلى الحق والمعرفة . ولكن نهجه سيختلف عن نهج صفيّه " محمد بن عبد الله " . تماما ، كما ستختلف
النتيجة بالنسبة لكليهما ، فبينما يبحث أبو بكر عن الحقيقة ، إذا محمد يجدها . إن منهج محمد هو التأمل ، والإصغاء
إلى الهمس الآتى من داخل الحقيقة ذاتها . أما أبو بكر فمنهجه التفكير ، والإصغاء إلى حكمة الحُكماء ومنطق
العابدين المبصرين . وهو طوال عمره مُولع بحفظ روائع الثقافة العربية من شعر ونثر ، ومن محفوظاته الثّرة
الغنية يمُد عقله بأسباب التفكير . وهكذا بينما يعكُف محمد على تأملاته ، ويتلمس الحق عن طريق حدسه وتجربته
ورؤاه ، إذا أبو بكر يُسلم قلبه وعقله للحكمة التى يبرق سناها فى كلمات هذا النفر الصالح ذوى التجربة السديدة
المديدة ، قس ، وورقة ، وزيد . ولا يترك فرصة تمكّنه من التلقى عنهم والإصغاء إليهم إلاّ اهتبلها وفاز بها .
وإنه ليحفظ اقوالهم حفظا راسخا ، ويعيش فى رؤاهم عيشة تُساعده عليها فطرته العُظمى التى تريد أن تعرف
الحق وتبلغه مهما يكن الثمن ،والتى رات فى هؤلاء بحكم سنهم وبحكم تجربتهم وحياتهم الطاهرة دليلا قويما إلى
الحقيقة المرجوّة . "انتهى الاقتباس" .
ثانيا : كتاب "خلفاء الرسول " الصفحات 45، 46، 54:
وكان أبو بكر الصديق عائدا من رحلة تجارية
" وتعانقوا جميعا ، وبدأ أبو جهل الحديث : أوحدّثوك عن صاحبك يا عتيق (أبو بكر ، ولقّب بأبى بكر لأنه بكّر
باعتناق الإسلام ) .
وكان أبو بكر قبل إسلامه يُسمى عتيقا . فأجابه أبو بكر : أتعنى محمدا الأمين .
وقال أبو جهل: نعم ، أعنى يتيم بنى هاشم .
ودار حوار سريع بين الاثنين ، ثم سأل أبو بكر : أسمعت أنت ما يقول يا عمرو بن هشام "أبو جهل".
فرد أبو جهل : نعم ، سمعته ، وسمعه الناس جميعا .
فسأل أبو بكر : وماذا قال .
فرد أبو جهل: يقول إن فى السماء إلها أرسله لنا لنعبده ،ونذر "نترك" ما كان يعبد آباؤنا.
فتساءل أبو بكر : أو قال إن الله أوحى إليه .
أبو جهل: أجل.
أبو بكر : ألم يقل كيف كلّمه ربه .
أبو جهل: قال : إن جبريل أتاه فى غار حراء .
تألّق وجه أبى بكر كأن الشمس قد اختصته آنئذ بكل ضيائها وسناها ، وقال فى هدوء مجلجل :
إن كان قد قال ، فقد صدق .
ودرات الأرض بأبى جهل ، وتلعثمت خطواته ، وكاد جمسه يتهاوى فوق ساقيه الهازلتين ، وتناقل الناس كلمة
أبى بكر من واحد إلى آخر ، حتى صار لهم بها دوىّ كدوى النحل . وقصد أبو بكر داره ليرى أهله ، وينفض
عنه وعثاء السفر ،وبعدها يقضى الله أمرا كان مفعولا." " انتهى الاقتباس".
وكانت ثمة عبارة مشهورة للرسول صلى الله عليه وسلم تصف حال اعتناق أبى بكر للإسلام نجدا فى صفحة 54 :" وما عرضت الإسلام على أحد إلاّ كانت له كبوة ، عدا أبى ، فإنه لم يتلعثم" انتهى الاقتباس.
معركة اليمامة
ولنطالع كذلك فقرات من كتاب " خلفاء الرسول " الصفحات 75 :78 :
" فما كاد نبأ موت الرسول عليه السلام ، يذيع فى البلاد ، حتى تصوّر المرجفون والذين فى قلوبهم مرض ممّن
كان إسلامهم مداهنة وتقيّة ، تصوروا أن الرسول لم يمت وحده ، وإنما مات الإسلام معه ، وعليهم أن يتحرّكوا
بسرعة ليرثوا ذلك الدين الذى انتهى فى ظنهم . وليستردوا جميع الامتيازات التى كانوا قد فقدوها تحت ضغط
الدين الجديد . وهكذا بدأت انتفاضات ، لم تلبث حتى تحولت إلى ردّة مستشرية ، وجيوش يُنادى بعضها بعضا
للزحف على المدينة ، والإجهاز على الإسلام . فى البلاد البعيدة من المدينة ، كان أكثر المسلمين حديثى عهد
بالإسلام ، وكان الدين مرتبطا فى وجدانهم ارتباطا كاملا بصاحبه "محمد " الرسول ص، فلما مات الرسول
وقام فيهم من رؤسائهم من استغل حداثة إسلامهم ، ساروا وراءه مرتدين . والحق إنها لم تكن أول الأمر ردّة
كاملة عن الدين ، إنما كانت إضرابا عن دفع الزكاة ،لكن أبا بكر رآها ردّة ورآها عجما لعود الإسلام بعد أن مات
رسوله ، فإذا أبدى الإسلام عن أى ضعف أمام هذا التمرد ، فستجاوز العواقب كل حسبان ، ويومئذ ظهر رأيان .
رأى يرى ألا يُقاتل هؤلاء ، ما داموا لم يقترفوا سوى امتناعهم عن دفع الزكاة ، وعلى رأس هذا الفريق " عمر بن الخطاب".
ورأى آخر يرى أن الزكاة ركن من الدين ليس من حق الخليفة أن يدع الناس يهدمونه ، ويرى أن الامتناع عن
آدائها ، ليس سوى البداية ، وليس سوى حركة استطلاع ، يتوالى بعدها التمرد والقضاء على الإسلام ، وحمل
لواء هذا الرأى " أبو بكر الصديق" .
وهنا يبين الفارق الخفى بين طرازين من العظماء. وهوفارق تناهى فى الخفاء والدقة ، ولو سُئل الناس - جميع
الناس - قبل أن يُعلن كل من أبى بكر وعمر عن رأيه فى هذه الأزمة ، لو سُئل الناس ، من الذى سيكون أكثر
صرامة ، وشدة ، ومن الذى سيكون أكثر لينا ومهادنة ، لما ترددوا أن يُشيروا إلى عمر بن الخطاب ، أنه سيكون
مناديا بالقمع الصارم ، وإلى أبى بكر داعيا إلى الأناة والملاينة . ومع هذا فالذى حدث هو العكس والنقيض ، فلقد
باكر " أبو بكر " الأزمة بإرادة مشخوذ مصمّمة على أن يضرب فى غير تردد ، موضحا اقتناعه فى هذه الكلمات :
" والله ، لو منعونى عقال بعير كانوا يعطونه لرسول الله ، لقاتلتهم عليه بالسيف." أما عمر ، فيقف من الأزمة
موقفا مغايرا ، ويوجّه إلى الخليفة هذا السؤال : " كيف تقاتل قوما يشهدون ألاّ إله إلاّ الله ، وقد أخبر الرسول
أنّ من قالها ، فقد عصم دمه وماله ". فيجيبه أبو بكر الصديق قائلا : ألم يقل الرسول إلاّ بحقها ، ألا إن الزكاة
من حقها . ووراء موقف أبى بكر هذا علامتان مضيئتان : أولاهما : تكشف عن يقين أبى بكر " المؤمن". وثانيتهما :
تكشف عن بصيرة أبى بكر " الخليفة والزعيم ". فيقينه بالله وبرسوله يرتفع إلى مستوى الإذعان المطلق لما
القياه من أمر ومنهاج ، وهو بهذا يحمل كل مسئوليته عن الدين ، فلا يسمح بأن يتغيّر على عهده شئ من شرع
الله وسنة رسوله ، وكل فريضة توفى الرسول وهى قائمة ، لابد وأن تظل قائمة مهما تكن التضحيات . وهو
ببصيرة القائد والحاكم والزعيم ، يرى أن أية بادرة من الضعف تغشى الإسلام فى هذه الأزمة الفاصلة ، ستُغرى
قوى النكسة والظلام بالوثوب عليه من كل واد. وبإيمانه ذاك ، وبصيرته هذه ، تشكّلت فى باطنه قوة نفسية
هائلة ، هيّأت عقله وإرادته لمواجهة الموقف على هذا النحو الذى سبق ، والذى أظهر سيْر الحوادث أنه لولاه
لتعرّض الإسلام لما يُشبه الفناء. لكن هذا الإيمان وهذه البصيرة ، لم يكونا يعملان بمعزل عن رأى الجماعة
وحقها فى الشورى والمناقشة . " "انتهى الاقتباس".
ثالثا : أبو بكر وجمع القرآن الكريم :
ولنطالع مقتطفات من كتاب "تاريخ القرآن " الصفحة 171 :
" أحدثت وفاة رسول الله ، زلزلة فى كيان الجماعة المسلمة بالمدينة ، كما كان لها صدى بعيد فى أرجاء الجزيرة
العربية ، أما وضع المسلمين بالمدينة ، فقد أضحى قلقا مضطربا ، لإحساس الناس بالفراغ الرهيب عقب وقوع
الكارثة ، وانشغالهم برأب الصدع ، وتولية خليفة لرسول الله ، يقوم على أمر الناس ، وما أن فاقوا على اختيار
أبى بكر ، حتى فوجئت السلطة الجديدة ، فوق مسئولياتها عن تنظيم المجتمع ، بأنباء الانشقاقات فى أنحاء الجزيرة
وكانت حروب الردة فى مختلف البقاع ، من أخطر المشكلات التى واجهها أبو بكر رضى الله عنه بحزم وصلابة .
لم تلن لهما قناة . كل هذا كان صارفا لجمهور المسلمين عن التفكير فى أمر القرآن ، أوعلى الأقل ساعد على
تنحية مشكلته جانبا . فالناس من ناحية فى شغل عن ذلك بالحرب الضروس، وهم من ناحية أخرى لا يشعرون
بأن أمرا ينبغى أن يحدث تجاه القرآن ، إذ كانوا مطمئنين من هذه الناحية اطمئنانا كاملا، فالقرّاء وفرة فى الناس
والقرآن مكتوب ، ومحفوظ فى بيوت أزواج النبى ، أمهات المؤمنين . لكن حدث أمر لم يكن فى الحسبان ، ففى
معركة " اليمامة " سقط من المسلمين عدد كبير جدا ، نحو ألف شهيد ، بينهم نحو أربعمائة وخمسين صحابيا
وبلغ الأمر عمر بن الخطاب ، فاهتم له ."""انتهى الاقتباس".
توثيق القرآن أثناء عملية الجمع
واستطاع عمر بن الخطاب إقناع أبى بكر الصديق بضرورة جمع القرآن الكريم ليأخذ صورة الكتاب الواحد .
بدلا من العُسب واللخاف والأكتاف والعظام ، لأن القتل استحرّ بالقرّاء فى معركة " اليمامة " . ومن ثم ، فقد
رأس عمر بن الخطاب ، وزيد بن ثابت وغيرهما عملية التوثيق هذه ، إذ بعث أبو بكر الصديق يطلب القرآن الكريم
من بيوت أمهات المؤمنين على أن يرده إليهن مرة ثانية . فكيف كانت تُجرى عملية التوثيق . كان لابدّ وأن يشهد
صحابيان على كل آية مكتوبة فى العُسب واللخاف والأكتاف والعظام . وهكذا وقف عمر وزيد على باب المسجد
يدعيان كل من يحفظ من القرآن الكريم شيئا أن يأتى إليهما به حتى تمّت عملية التوثيق على أعظم ما يكون ، وكانت
المصادر هنا ثلاثة مصادر : الآيات المكتوبة على العُسب واللخاف والأكتاف والعظام ، صحابى أول ، صحابى
ثانى من الثقات ، وتمّ العمل حتى جُمع القرآن الكريم ليأخذ صورة الكتاب الواحد فى عهد أبى بكر الصديق واحتفظ
بهذه النسخة الجديدة حتى توفى ، فانتقلت النسخة إلى بيت الخليفة الذى يليه ، عمر بن الخطاب ، وبعد اغتيال
عمر ، انتقلت النسخة إلى بيت ابنته " حفْصة بنت عمر" أم المؤمنين ، حتى حدث ما حدث أيام عثمان ، وبدأ
المسلمون يكفّرون بعضهم بعضا ، فأرسل الخليفة عثمان إلى حفصة أن تأتيه بالنسخة ، ينسخها ثم يعيدها إليها
مرة أخرى . وكما جرت عملية التوثيق فى المرة الأولى ، جرت فى المرة الثانية كذلك .
رابعا : التواضع : إنه حالب الشاة يا أماه
كتاب " خلفاء الرسول " الصفحات 107 ، 108 :
" كانت بساطته - أبو بكر الصديق - أهم عناصر عظمته ، وكان قبل أن يصير خليفة ، يُقدّم لأهل الحىّ الذى
يسكنه خدمة تناهت فى الطرافة والروعة . فقد كان فى جيرته بعض الأرامل العجائز اللاتى مات أزواجهن أو استشهدوا
فى سبيل الله ، كما كان هناك بعض اليتامى الذين فقدوا آباءهم . وكان رضى الله عنه ، يؤم بيوت الأوليات فيحلُب
لهن الشياه. ويؤم بيوت الأخريات فيطهو لهن الطعام . ولما صار خليفة ، تناهى إلى سمعه حسرة العجائز لأنهن
سيُحرمن منذ اليوم من الخدمة الجليلة التى يؤديها لهن الرجل الصالح ، ولكنه أخلف ظنونهن . وذات يوم ، يقرع
باب احدى تلك الدور، وتسارع إلى الباب فتاة صغيرة لا تكاد تفتحه حتى تصيح : إنه حالب الشاة يا أماه . وتُقبل
الأم فإذا بها وجها لوجه أمام الخليفة العظيم ، فتقول لابنتها فى حياء: ويحك ، ألا تقولين خليفة رسول الله . ويُطرق
أبو بكر ، ويُهمهم مع نفسه بكلمات خافتة ، لعلّه يقول : دعيها ، فقد وصفتنى بأحب أعمالى إلى الله .
وتقدّم
حالب الشاة ليؤدى الواجب الذى فرضه على نفسه . أجل ، حالب الشياه للعجائز ، والعاجن بيده خبز الأيتام
بساطة ، رحمة ، وتفان فى آداء حق الحياة ،تُرى لو قُدّر لأبى بكر بشمائله هذه أن يكون رئيس دولة فى عصرنا
الحديث ، أكان منهجه هذا يتغيّر ، كلا ، صحيح ، إنه لم يكن سيحلب الشياه ، ولا يطهو بيده الطعام ، بيْد أن شمائله
تلك كانت ستعبّر عن نفسها فى مشاهد كهذه تناسب روح العصر ، دون أن تبخس نفسها فى شئ. إن بساطة
هذا الإنسان البار ، وإن رحمته لمن الأمور المعجزة . ولقد أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم حقه حين قال
عنه :" أرحم أمتى بأمتى أبى بكر ". لقد كان يحمل قلبا مشحوذ الإحساس بكل ألم إنسانى . وكان يملك إرادة
مباركة تسارع إلى إنجاز توصيات قلبه الرشيد الودود. " انتهى الاقتباس".

ثالثا : عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه ،

وتحرير الفكر العقائدى الإسلامى فى الحكم

إن فترة حكم عمر بن الخطاب ، لهى أخصب الفترات فى مواقفها الفقهية بعد فترة الرسول "ص" ، ومازلنا

إلى الآن نفغر فاهنا إعجابا بما فعله عمر فى فترة خلافته للمسلمين ، فلقد قدّم لنا حيثيات ليونة ومرونة وصلابة

الفكر الإسلامى فى الحكم فى آن معا ، مما كان له بالغ الأثر فى تقوية هذا الفكر العقائدى الجديد. فبراعة هذا

الرجل فى قراراته ومواقفه ما تستحق الإشادة بها ، ولسوف أترك المواقف تتحدث عن نفسها . وكما أوضحنا

اختلاف بين نظريتى عمر وعثمان فى الحكم ، فإننا كذلك نلمح اختلاف نظريتين فى التعامل مع الفكر الإسلامى

فى الحكم بين عمر وأبى بكر الصديق ،

فلئن كان "أبو بكر " قد تهيّب لاقتراح "عمر" بجمع القرآن الكريم بأنه شئ لم يفعله الرسول صلى الله

عليه وسلم ، فإن "عمر" قد فهم المغزى الأخلاقى للرسالة الخاتمة - الإسلام - وعرف أن كل سلوك لا يجب

أن يسأل فيه هل فعله الرسول ص، أم لا ، بل ، إن هناك إرشادا أخلاقيا عاما ، ومبادئ إنسانية عامة فى الفكر

الإسلامى يسير الإنسان على هديها ، مُعملا عقله فيما يستجد من أمور لن يجدها فى الكتاب أو فى السنة ، وعلى

المسلم أن يقدح زناد فكره إذا . ولعلنا باستقراء مواقف عمر فى الحكم ، نستطيع أن نُدلى برأينا فى اتجاهين

رئيسيين :

الأول: روافد العدل فى الدولة الإسلامية

"قراءة فى قرارات عمر بن الخطاب"

الثانى : عمر بن الخطاب ، والنظام السياسى متأثرا بالفكر الإسلامى .

روافد العدل فى الدولة الإسلامية

"قراءة فى قرارات عمر بن الخطاب"

الرافد الأول:

" تطبيق الأحكام الصريحة فى الكتاب والسنة

ما لم تؤدى إلى مظلمة ."

الموقف الأول: " المؤلفة قلوبهم ".

والذى أعطاهم الله تعالى سهما من ثمانية أسهم من مستحقى الزكاة ، والمؤلفة قلوبهم ، هم الذين دخلوا الإسلام

كطلقاء ، فكان أمر الله تعالى بإعطائهم نصيبا من زكاة مال المسلمين لتحبيبهم ، وتأليف قلوبهم للإسلام . لكن

عمر وباستقرائه لواقعه المحيط آنئذ ، رأى أن الأمر تحول إلى - إن جاز التعبير- إلى " سبوبة" ، وهنا شعر

عمر أن شرع الله تعالى تحوّل على يد هؤلاء إلى مفسدة ، فأوقف العمل بنص الآية الكريمة الواضحة ، فالسنوات

التى قضوها يتقاضون فيها أموالا ، لـتأليف قلوبهم على الإسلام ، لابدّ وأن تكون كافية . والآن وما يُثار فى واقعنا

المعاصر من خلاف حول أحقية " العاملين عليها " كنوع من الثمانية أنواع التى قضى الله تعالى لها سهما فى

الزكاة ،فقديما ، كان العاملون على جمع الزكاة يتحمّلون مشاق السفر وركوب الجمال لمسافات لتحصيل الزكاة

وجلبها إلى بيت مال المسلمين ، فكان الأمر لهم باستحقاق نصيب من الزكاة كتعويض للمشقة التى يتكبدونها من

ناحية ، ولعدم الطمع فى أموال الزكاة من ناحية أخرى . والآن ، فالأمور ميسّرة ، باستخدام الكمبيوتر ، وتطور

وسائل المواصلات ، فهل لا يزال العاملون عليها يستحقون الزكاة ، فإن لم يكن من أجل المشقة ، يكن من أجل

عدم الطمع فيها ، وهل يمكن لو طمع فيها عامل عليها أن يمد يده ، فإذا كان الأمر كله الآن سجلات وأرشيفات

ووصولات تمنع العبث بها ، فلا يجوز ، سؤال نطرحه على الجميع .

الموقف الثانى : وقف العمل بقطع يد السارق عام الرمادة :

حيث كان ظرفا استثنائيا ، وطالما وُجد الجوع والفقر ، فسوف يُوجد معه السرقة ، وهنا أوقف عمر بن الخطاب

العمل بحد قطع يد السارق فى مثل هذا الظرف الاستثنائى ، لأنه هنا شرع الله تعالى سوف يتحوّل إلى مظلمة .

فالناس جياع ، ولا حيلة لجائع إن لم يجد فرصة عمل شريفة ، أو شخص يكفله ، ألاّ أن يمد يده سارقا أو شحاذا .

وينطبق على مثل هذه الظروف الاستثنائية : المظاهرات ، الحروب ، العصيان المدنى ، البطالة ، ارتفاع معدلات

تأخر سن الزواج ، وأى تهديدات أخرى عامة يواجهها المجتمع الإسلامى . ويمكننا أن نستفيض أكثر ، فنقول :

إنه ليس فقط شرطا وجود ظروف اسثنائية ظاهرة للعيان ، ولكن أيضا ، مراقبة الإحصاءات لاسيما فى الدول

التى تطبق " الحدود " من الدول الإسلامية ، فإن لُوحظ زيادة فى أعداد المحدودين "الذين أقيم عليهم الحد أو ينتظرون".

فلابدّ إذا من تحرّى الأمر ، والبحث عن الخطأ لإصلاحه ، وهذا يستلزم بالطبع مؤسسات تقوم عليه .

وما يدفعنى إلى هذا القول ، هو أن عالمنا المصرى الجليل الدكتور " أحمد زويل" أفاد فى أكثر من لقاء حوارى

معه على شاشة التليفزيون ، إنه يقوم بإجراء تجارب على " الضمير". فما هى نوعية هذه التجارب ، وهل من

الممكن أن يظهر فى المستقبل قنابل موجّهة إلى " الضمير" . حتى إذا ما انفجرت فى صمت وهدوء ودون أن

يلاحظها أحد ، أودت بالبشر لارتكاب المعاصى دون أن يعمل أحد السبب . أعتقد أنه لزاما علينا جميعا إدراك

خطورة ما تُحدثه الاكتشافات العلمية الحديثة على شرعنا الإسلامى ، ولاسيما " تطبيق الحدود " التى تستلزم :

أولا: مراقبة أية حالة استثنائية تظهر فى المجتمع ، يترتب عليها قانونيا وبطريقة آلية إيقاف مؤقت للعمل بها .

ثانيا : مراقبة نسبة تطبيق الحدود فى الدول الإسلامية التى تطبقها ، وملاحظة معدلات الزيادة وأسبابها وغير ذلك .

ثالثا : مراقبة التطورات العلمية وما يمكن أن تُحدثه وتؤثر فى " تطبيق الحدود".

الموقف الثالث: رفض تقسيم أرض العراق على الفاتحين المسلمين :

رغم وجود نص قرآنى صريح يُعطى نسبة من الأرض التى يفتحها المسلمون للفاتحين ، إلاّ أن الخليفة عمر بن الخطاب

استشعر خطورة أن يتم ذلك فى كل مرة ، فالأجيال القادمة لن تجد إذا الأرض التى ستعيش عليها ، ولذا جمع

الصحابة وأخبرهم بهذا الخطر الذى يشعر ، ووافقوه عليه ، ومن ثم ، فقد رفض تقسيم أرض العراق على الفاتحين

المسلمين وقتئذ من أجل خاطر الأجيال القادمة من ناحية ، وألاّ يتحوّل المقاتلون فى سبيل الله تعالى إلى محتكرى أراضى .

الموقف الرابع : جعل الطلقة الأولى هى الأخيرة

وقد اشترك أبو بكر وعمر فى هذا الأمر ، فقد انتشر وقتها ظاهرة إلقاء الرجال يمين الطلاق على زوجاتهن بطريقة

أدت إلى الاستهانة باللفظة نفسها ، وهنا قرّر أبو بكر وعمر ، جعل الطلقة الأولى هى الأخيرة ، وبعدها لا تحل

المرأة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره. حتى إذا انضبط لسان الرجال وقتئذ ، تم الرجوع للعمل بما نصه الله تعالى

بأن جعل الطلقات ثلاث ، لا تحل المرأة لزوجها إلا بعد أن تنكح زوجا غيره.

الموقف الخامس : إرغام الرجل الذى طلّق زوجاته على إعادتهن

إلى عصمته مرة ثانية :

فحدث أن رجلا شعر بدنو أجله ، ومن أجل ألاّ ترثه زوجاته ، قام بتطليقهن ، ورغم أن هذا الرجل قد استخدم

حقا شرعيا له " التطليق" ، إلاّ أنه فى هذه الحالة مستغلا وليس مستعملا لحق أو فلنقل " التعسف فى استخدام

الحق الشرعى الذى فرضه الله تعالى " . وعلم عمر بذلك ، فأرغم الرجل على إعادة زوجاته إلى عصمته مرة

ثانية . وقد أشار أحد أستاذتنا من علماء الأزهر الشريف فى احدى المناسبات التليفزيونية أنه يعرف رجلا تزوج

سبعا وعشرين مرة ، فسألة كيف ذلك ، فأجابه الرجل : كنت أتزوج أربعة مرة واحدة ، ثم بعد فترة ، أقوم بتطليقهن

وأتزوج أربعة أخريات إلى أن وصل العدد إلى سبع وعشرين زوجة.

فهذا الرجل يعتقد أنه يستخدم حقه الشرعى ، ولكن قسما بالله ، وقياسا على ما كان عمر بن الخطاب كان سيفعله

وقتئذ ، لكان حكم بالرجم وإقامة حد الزنا على هذا الرجل الذى تلاعب بالأعراض التى جاء الإسلام لصيانتها

ونظّر لها ، ووضع أسسها وقواعدها وجعلها حقا من ناحية ، وإلزاما ومسئولية ومساءلة فى الدنيا والآخرة من

ناحية أخرى . ويعد زواج المتعة من صور التلاعب بالأعراض كذلك .

اللعان ، وتحليل الحامض النووى

وقد طرح الدكتور " محمد رأفت عثمان " من علماء الأزهر الشريف سؤالا وجّهه للجميع عن إمكانية استخدام

تحليل الحامض النووى للفصل بين شكوى الزوجين فى حالة " الملاعنة ".

ولعلى أدلى بوجهة نظرى المتواضعة فى هذا الأمر بالقول بأنه : وإن كانت الملاعنة بين الزوجين تؤدى فى النهاية

إلى الانفصال بين الزوجين ، لكنها لا تؤدى إلى : أولا: لا تؤدى إلى إسقاط نسب الطفل لأبيه . ثانيا : عدم إقامة

الحد على الأم.

فلو أننا استخدمنا الحامض النووى ، وظهر أن الطفل بالفعل ليس لأبيه ، فهذا سوف يؤدى إلى :

أولا: إسقاط نسب الطفل لأبيه .

ثانيا :وجوب إقامة الحد على الأم ، خاصة فى الدول التى تطبق الحدود .

والإسلام ينزع دائما إلى الستر والعفو قدر الإمكان ، ولذا ، أرى أن لا يجب العمل بقاعدة " الحامض النووى فى الملاعنة " .

الموقف السادس : عمر واجتثاث شجرة البيعة

وذلك لمحاربة عقلية الخرافة لدى المسلمين ، الذين ذهبوا يتباركوا بهذه الشجرة التى شهدت " بيعة الرضوان "

أسفلها وذكرها الله تعالى فى القرآن الكريم كذلك .

الرافد الثانى من روافد العدل :

استحداث القوانين وإنشاء الهيئات لمواجهة أحداث الواقع المتلاحق أولا بأول :

فقد أنشأ عمر بن الخطاب ، الدواوين على اختلاف أنواعها كنوع من " الخيال الإدارى " لتنظيم شئون الدولة

الإسلامية التى ترامت أطرافها ، واتسعت رقعتها . كذلك استحدث عمر بن الخطاب نظام " السجن" فى الدولة

الإسلامية ، لأنه ليس كل مخالفة لها حد فى الكتاب والسنة .

الرافد الثالث من روافد العدل

وهو عام فى الحقيقة ، من حيث الاستفادة بخبرات البشر والبلدان الآخرين فى كل ما يفيد المجتمع الإسلامى تحت

قاعدة " لا ضرر ولا ضرار".

الرافد الرابع من روافد العدل :

" الخطأ فى إطار الصواب"

وذلك تطبيقا لحديث الرسول ص :" إذا اجتهد المجتهد فأصاب ، فله أجران ، وإن أخطأ ، فله أجر ". فالخطأ

الوارد فى هذا الحديث ، ليس خطأ من الأخطاء أو المحرّمات المنصوص عليها صراحة فى القرآن والسنة ، ولكنه

خطأ اجتهاد فى النظر إلى الواقع والحياة والخبرة . ويقصد الإسلام من ذلك ، تحرير المسلم من الخوف من إبداء

الرأى ، وإعمال ملكات الإبداع . ومن ثم تزيد الاجتهادات ، وتكثر التجارب، وتُثقل الخبرات .

الرافد الخامس من روافد العدل :

المساواة أمام القانون

حيث جاء فى احدى المرات رجل يهودى للخليفة عمر بن الخطاب ، يشتكى سيدنا على بن أبى طالب ، وكان

جالسا بجوار الخليفة ، فقال عمر للرجل : اجلس أمامى يا "فلان " وناداه باسمه. ثم نظر لعلىّ بن أبى طالب

وقال له : قم فاجلس أمامى يا أبا الحسن .

ففعل ، ولكنه بدا عليه الغضب ، فبادره عمر بن الخطاب بالسؤال : أغضبت يا أبا الحسن ، لأنى أردت أن أسوىّ

بينكما فى المجلس أمامى.

فأجابه علىّ بن أبى طالب : بل غضبت لأنك ناديته باسمه ، وناديتنى بكنيتى ، ففضلتنى عليه ، وأنت لم تحكم

بيننا بعد.

الرافد السادس من روافد العدل

درء الحدود عن المسلمين قدر المستطاع

والستر إن أمكن هذا

الموقف الأول:

حدثت سرقة كان الشاهد الوحيد فيها ، هوالسارق نفسه ، فإن أجاب بالإثبات لوجب إقامة الحد عليه ، فنظر إليه

الخليفة عمر بن الخطاب وقال له :" أسرقت ، قل لا".

الموقف الثانى :

جاء رجل إلى الخليفة عمر يستشيره فى أمر ابنته ، وكانت قد وقعت فى علاقة آثمة ، ثم استغفرت وتابت وهى

الآن على وشك الزواج ، فسأل الرجل الخليفة عمر : هل أُخبر العريس .

فصاح به عمر : بل زوجها زواج الشريفة العفيفة ، ولو فعلت خلاف ذلك لأقمت عليك الحد " حد القذف".

الاتجاه الثانى : عمر بن الخطاب ، والسلوك السياسى

لو قمنا بتحليل مفردات أى سلوك سياسى فى أى مجتمع لوجدناه يتكون من عناصر أساسية ، تشكّل محور السلوك

والحركة السياسية فى أى مجتمع ، هذه العناصر هى :

أولا: العلاقة ما بين الحاكم والمحكومين .

ثانيا : نظام الحكم .

ثالثا : مكانة السلطة التنفيذية بين باقى السلطات " القضائية - التشريعية - الرقابية " .

أولا: العلاقة بين الحاكم والمحكوم فى إطار الفكر الإسلامى

كما طبّقه الخلفاء الراشدون:

يمكن أن نرصد اتجاهين رئيسيين فى العلاقة بين الحاكم والمحكومين فى أى مجتمع هما :

الاتجاه الأول :

مساءلة الحاكم والمساهمة فى إدارة شئون البلاد

الاتجاه الثانى :

المساواة القانونية بين الحاكم والمحكومين .

"نظرية مسئولية أولى الأمر الدوّارة".

الاتجاه الأول :

مساءلة الحاكم والمساهمة فى إدارة شئون البلاد

عندما تولى أبو بكر الصديق خلافة المسلمين ، نستطيع أن نطالعه فى كتاب " خلفاء الرسول " الصفحة 90 :"أيها الناس

إنى وُليت عليكم ، ولست بخيركم

إن أحسنت فأعينونى

وإن أسأت فقوّمونى

إلا إن الضعيف فيكم ، قوى عندى، حتى آخذ الحق له

إلا إن القوى فيكم ، ضعيف عندى ، حتى آخذ الحق منه

أطيعونى ما أطعت الله

فإذا عصيت الله ، فلا سمع ولا طاعة ". " انتهى الاقتباس".

ومثل هذا الكلام تقريبا ، ردّده عمر بن الخطاب وعثمان وعلى ّ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .

وقد سبق ونظمْنا هذا تحت نظرية بعنوان " مسئولية أولى الأمر الدوّارة" ، والتى فيها تسير العلاقة والمسئولية

فى الحكم وإدارة شئون البلاد بين الحاكم والمحكومين بشكل دوّار، لا بخط مستقيم من أعلى " الحاكم " إلى أسفل

" المحكومين".

فقد حدث ذات مرة أن أراد الخليفة عمر الإقلال من الإنفاق بشكل عام فى الدولة الإسلامية ، فطفق يخفض الإنفاق

فى كل مجال ، حتى جاء مجال الزواج ، فأمر ألاّ يزيد مهر المرأة عن كذا ، وأية زيادة سوف تذهب إلى بيت

مال المسلمين ، ولكن نهضت امرأة من الحاضرين وقالت له : ما لك هذا .

فسألها الخليفة ، ولم

فأجابت : الله تعالى يقول : " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ، وآتيتم إحداهن قنطارا ، فلا تأخذوا منه

شيئا ، أتأخذونه بهتانا ، وإثما مبينا " النساء 20 .

عندها أدرك عمر أنه خالف - بدون ضرورة واضحة - حكما صريحا فى القرآن الكريم فقال :" أصابت امرأة

وأخطأ عمر".

الاتجاه الثانى :

المساواة القانونية للحاكم والمحكوم

حدث ذات مرة أن كان الخليفة عمر بن الخطاب سائرا ، فلمح من بعيد رجل وامرأة خلف الشجرة يأتيان أفعالا

منافية للآداب ، فذهب إلى مجلس مستشاريه وعلى رأسهم علىّ بن أبى طالب ، وأخبرهم بما رأى ، فقال له علىّ بن أبى طالب:

ائت بثلاثة شهود آخرين معك ، فنقيم عليهم الحد .

فسأله الخليفة عمر بن الخطاب : حتى ولو كنت أمير المؤمنين .

فأجابه علىّ بن أبى طالب : وإن أخبرت عنهما ، حددناك " أى أقمنا عليك الحد " حد القذف".

على أن أقصى ما كان يستطيعه عمر بن الخطاب وقتئذ ، أن يسير إليهما ويزجرهما دون أن يستطيع توجيه تهمة لهما .

ثانيا : نظام الحكم فى الدولة الإسلامية :

وتحسم هذا الموقف الآية الكريمة لقوله تعالى : " وأمرهم شورى بينهم ".

ثالثا : مكانة السلطة التنفيذية بين سائر السلطات

الأخرى فى الفكر الإسلامى :

أولا: الفصل بين السلطات :

يمكن القول بشكل عام إن المجتمع الإسلامى عرف هذا الفصل بشكل كبير ومحترم فى أوقات متأخرة قليلا عن

وقت الخلفاء الراشدين ، لحداثة العهد بتجمع القبائل العربية التى كان يحكم كل قبيلة حاكم ، ولكل قبيلة قوانينها

وقواعدها .

ثانيا : الإذن القضائى المسبق،

ومنع تغوّل السلطة التنفيذية :

ولعلّ موقف القضاء من الرجل والمرأة خلف الشجرة سابق الذكر من المواقف التى يمكن ذكرها فى هذه المقام

حيث استلزم الخليفة عمر بن الخطاب - وهو يقع على رأس السلطة التنفيذية - أن يستأذن أولا.

موقف آخر

حدث ذات مرة ، بينما الخليفة عمر بن الخطاب سائرا يتفقد أحوال المسلمين ، إذ سمع أصواتا تنبعث من منزل

من المنازل ، فشك أن أصحابها يقومون بتناول " الخمر" المحرّم صراحة فى الإسلام ، فما كان منه إلاّ أن تسلّق

المنزل ليراهم من الشباك ، فلما تأكّد بالفعل أنهم يتناولون الخمر ، قفز عليهم ووجّه لهم التهمة ، وأراد إقامة الحد

عليهم . لكنّهم ابتدروه قائلين : إذا كنا نحن قد أخطأنا فى أمر ، فقد أخطأت أنت فى اثنين .

فسألهما : ما هما .

فأجابوه : أولا : تجسست علينا من النافذة والله تعالى يقول : " ولا تجسسوا ". ثانيا : اقتحمت علينا المنزل من

الشباك ، والله تعالى يأمرنا بأن نأتى البيوت من أبوابها ونستأذن أصحابها فى الدخول.

فأطرق عمر معلنا خطأه ، واعتذر لهم ، ثم مضى .

الأمر إذا لا يعنى أن نترك الفاحشة تُرتكب فى بيت من البيوت دون رادع ، ونُغمض عيوننا عنها . كما لا يعنى

استباحة بيوت المواطنين من قبل السلطة التنفيذية دون ضابط كذلك . الحل إذا : الإذن القضائى المسبق ، فلو

أن الخليفة عمر بن الخطاب ، توجّه إلى مجلس مستشاريه ، وأخبرهم بشكه فى أصحاب هذا المنزل ، لكانوا

أرسلوا معه شهودا ، وأعطوه الإذن ، فيصير أمر المداهمة قانونيا .

كلمة أخيرة

ما ذكرناه فى هذا المقام ربما يوفى بعض الحقوق لهؤلاء العظماء الذين أثروا الحركة الإصلاحية العقائدية الجديدة

التى أطلق شراراتها " محمد بن عبد الله " فى منطقة الشرق الأوسط . فإليهم جميعا نوجّه التحية من قلب القرن

الحادى والعشرين .

مقولة لعمر بن الخطاب :

" والله لو أتى الأعاجم يوم القيامة بالأعمال ،

ولم نجئ بها نحن المسلمين ،لكانوا أحق بمحمد منّا"

نقلا عن : قناة النيل الثقافية

برنامج " كتب ممنوعة ".